هذا العمل الجراحي تم في دمشق

جريدة الثورة - العدد 673 - 29/7/1965

كان المري ملتحمًا، فانتزعه الطبيب واستعاض عنه بقطعة من الأمعاء.

لو وقفت ذات يوم بين الطبيب وقال لك بكل بساطة. لقد قررت أن أنتزع البلعوم وألقي به لأضع مكانه قطعة من الأمعاء الغليظة فها تتصور أنه جاد فيما يقول....

الدكتور مروان المحاسني الأستاذ في جامعة دمشق والجراح في مؤسسة المواساة قال ذلك بكل بساطة للمريضة بين يديه..

وارتجفت المسكينة وكادت أن لا تصدق ما سمعت

(ضحوك) شابة في ربيعها العشرين شاء حظها أن تتناول كأسًا من مذيب البوتاس ظنَا منها أنه كأس من الليمون فكان ان احترق البلعوم وأدى إلى تضيق سده نهائيًا وبقيت تعيش على الإبر المغذية.

سألت المريضة: - هل سبق وأجريت مثل هذه العملية يا دكتور؟

قال الطبيب: - هي المرة الأولى.

  • إذن سأكون في موضع تجربة؟

  • ليس ذلك بالتحديد فمن الوجهة العلمية لا شيء يعيق نجاح العملية.

وكان أمام المريضة واحد من اثنين: إما أن تقبل أو تعيش على الإبر المغذية بعد أن فشلت كل محاولة لتوسيع البلعوم.

فأجابت: إنني اوافق على إجراء العملية.

أول شجاعة

ويقول الدكتور مروان: لقد سبق ومرت علي عدة حالات مماثلة لأطفال وأردت إجراء العملية غير أن الأهل كانوا يرفضون دائمًا خوف ضياع الولد من خطورة هذا العمل الجراحي، غير أننا في أغلب الأحيان كنا نفلح في توسيع تضييق المري بواسطة إدخال شمعات من (الكوتشوك) مرة كل بضعة أشهر. وقد نجح هذا بادئ ذي بدء مع المريضة ثم ما لبثت أن غابت بضعة أشهر وعادت بانسداد تام فكان لا بد من إجراء العملية.

طبيعة العمل

كان أمام الجراح أحد حلين: إما فتح الصدر واستئصال القسم المصاب من المري واستبداله في داخل الصدر بجسر يصل القطعتين وتثبيته في الأعلى فتبلع صعب نظرًا إلى عمق المري كما أن هناك خطورة كبيرة في تأمين ذلك بين القسم العلوي من المري في الصدر والمعدة في البطن دون فتح الصدر.

والحل الثاني هو استئصال جزء من المعاء الغليظة وتثبيته في المعدة ومن ثم تمريره عبر القطعة السفلية للمري حتى القطعة العلوية مشكلًا جسرًا بين القطعتين وتثبيته في الأعلى فتبلع المريضة من الفم إلى القسم العلوي من المري إلى قطعة الأمعاء الغليظة إلى المعدة، وهذا الجسر من نسج المريضة الطبيعية ولذلك فهي تحتمل هذا الجسر احتمالًا حسنًا أفضل من جسر غريب كمري لإنسان ميت.

خطورة العملية

وقد لخص الدكتور محاسني خطورة العملية في ثلاث نقاط:

  • إمكانية عيش القطعة المستأصلة من الأمعاء الغليظة، إذ يحتمل ألا تعيش وبالتالي فإن النتيجة لن تكون فشل العملية فحسب بل القضاء على حياة المريضة.

  • خطورة عدم التئام الجرحين عند تخييط قطعة الكولون في المعدة وفي الجزء الأعلى من المري.

  • خطر احتمال المريضة للعملية. فقد بقيت المريضة بين يدي الجراح سبع ساعات كاملة وهنا لفت انتباهي الدكتور إلى أن البنج المؤمن في بلدنا سورية بشكل رائع ساعده كثيرًا في هذه العملية وفي سواها. بل إن إحدى الحالات استمرت حينها العملية إحدى عشرة ساعة دون أن تتأثر المريضة او تنزعج بل خرجت من المستشفى في ظرف خمسة عشر يومًا.

وجوابًا على سؤال وجهته للجراح عن السبب الذي جعله يحتمل إمكانية عيش القطعة المستأصلة من القولون قال:

أولًا أحب لفت انتباهك إلى أنه لا يوجد في العلم احتمال بمعنى لا يمكن أن نقدم على أي عمل قبل الثقة التامة الكاملة من نجاحه. في هذه الحالة مثلًا قمنا بتجريب إغلاق عدد من الشرايين المغذية للأمعاء إغلاقًا مؤقتًا وهي لا تزال في جوف البطن وبعد التأكد من ان الشرايين الباقية كافية أتممنا العمل الجراحي وقطعنا الشرايين التي سددناها تجريبيًا ثم استأصلنا قطعة الأمعاء وعدنا بوصل القولون من جديد.

خطر الخياطة

ومن أجل تلافي خطر عدم التئام الخياطة لجأ الجراح في عقب العملية إلى تغذية المريضة عن طريق فتحة جانبية في المعدة وبذلك تلافي مرور الأغذية على الجرحين لمدة خمسة عشر يومًا كان من نتيجتها التأكد التام من النجاح والتئام الجرحين بشكل جيد وموثوق، فسمح للمريضة بتناول الطعام وعادت من جديد إلى نعمة نستمتع بها أنا وأنت وكل إنسان لا يقدرها إلا من حرم منها.

عند المريضة

وجدت شابة في العشرين، جميلة جدًا، متوسطة الثقافة تزغرد بسعادة كبيرة بعد أن عادت كما كانت أصلًا، وحين أردت أن أتأكد منها فيما إذا كانت على اطلاع لخطورة عمليتها قبل القيام بها فكان الجواب بالإيجاب قالت لي:

  • كان لا بد من الموافقة فآلام صدري أكثر من أن تحتمل. والعيش على الإبر المغذية ليس في مقدور إنسان.. وثقتي بالطبيب الجراح كانت كبيرة فاتكلت على الله.

مثل عملية ضحوك

وكانت تقف إلى قرب سرير المريضة طفلة صغيرة قد لا تتجاوز الأربع سنوات.. قلت أداعبها:

  • ما اسمك يا حلوة؟

  • حميدة.

  • حميدة إيش؟

  • عتال.

  • وماذا تصنعين هنا؟

  • سأعمل عملية مثل ضحوك..

ونظرت إلى ضحوك وضحكت لها فأجابتها الأخرى بضحكة مماثلة.

سألت الدكتور مروان وأنا أتلفت حائرًا:

  • هل هذا صحيح؟

أجاب ببساطة:

  • أجل.

  • إذن أستطيع أن أسجل بأن العملية كانت دربًا جديدًا بالنسبة للطب في بلدنا لجميع الحالات المماثلة.

فأجاب بتواضع ... ولقد رأيته دائمًا بتواضع:

  • لك ذلك إن أردته.

مع مدير المستشفى

وفي غرفة تتصدر الممر الطويل في الطابق الأول من مستشفى المواساة اجتمعت بالدكتور كامل روماني مجير المؤسسة قال لي:

إن العملية مفخرة للمستشفى وفي رأيي انها شقت طريقًا جديدًا في بلدنا بالنسبة لجميع الحالات المستعصية في المري.

وفي طريق العودة جري بيني وبين أحد الزملاء الأطباء وكان هو الذي قص علي قصة هذه العملية وخطورتها وأهميتها ونصحني بالكتابة عنها. ثم ما لبث أن قال مستدركًا: لكن لمن ستكتب؟.. إن الإنسان العادي لا يمكن أن يقدر مطلقًا صعوبة إقامة مثل هذا العمل الخطير في بلدنا.

فأجبت: - غير أن هذا لن يمنعني من الكتابة عنها.